
لمن أراد الأجر العظيم.. باب لا يُغلق اسمه: إصلاح ذات البين
لا يكاد يخلو مجتمعٌ من خصومات ونزاعات تفرِّق بين الرجل وزوجه، والأخ وأخيه، والأب وأبنائه، والجار وجاره، والعائلة أو القبيلة ونظيرتها. ولا شكَّ أن ذلك يُضعف روابط الأخوة، ويقطع أواصر التآلف بين المسلمين.
وهنا يبرز مقام رفيع من مقامات الأخلاق الإسلامية، ألا وهو إصلاح ذات البين، ذلك الجهد المبارك الذي يقوم به العاقل الحكيم؛ ليطفئ نيران الخصام، ويعيد للقلوب صفاءها، وللنفوس أنسها.
وقد أثنت الشريعة الغرّاء على هذا المسعى الجليل، ورفعته إلى منزلة لا تدانيها كثيرٌ من أعمال الخير والبر.
يقول الله جل ثناؤه: ﴿ لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ [النساء ١١٤]
أيْ: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإمَّا لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإمَّا شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه.
ثم استثنى تعالى فقال:
﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ﴾ من مال أو علم أو أي نفع كان …
﴿أَوْ مَعْرُوفٍ ْ﴾ وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه …
﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ﴾ والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان…
فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ﴾ فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل. [تفسير السعدي]
وقال الطّبريّ عند قوله تعالى: (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ): "هو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليرجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به" [تفسير الطبري]
و"إصْلاحُ ذاتِ البَينِ"، يعني: السَّعي في إصلاحِ العَلاقاتِ بينَ الناسِ ورَفعِ ما بَينَهم مِن خُصوماتِ ودَفعِهم إلى الأُلفةِ والمحبَّةِ، ولا شكَّ أن هذا سينعكس على المجتمع المسلم كله؛ فيزداد تماسكًا وترابطًا وألفةً ومحبةً.
والإصلاح بين المتخاصمين خلق كريم وسلوك نبيل، يكابد الساعي فيه العناءَ، ويحتمل لأجله الجفاء، وربما يسكت عن بعضِ الحق، أو يبذل من ماله، أو يتوسط بوجاهته، كل ذلك رغبة في لمّ الشمل، وعودة الودّ والتآلف.
ولهذا؛ فقد حثَّ الله عز وجل على الإصلاح بين الناس في كثيرٍ من آيات كتابه العزيز؛ منها:
﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الحجرات ١٠]
﴿فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُوا۟ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ﴾ [الأنفال ١]
﴿وَلَا تَجۡعَلُوا۟ ٱللَّهَ عُرۡضَةࣰ لِّأَیۡمَـٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّوا۟ وَتَتَّقُوا۟ وَتُصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة ٢٢٤]
﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُوا۟ حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ إِن یُرِیدَاۤ إِصۡلَـٰحࣰا یُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَیۡنَهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا خَبِیرࣰا﴾ [النساء ٣٥]
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الإصلاح بين الناس
وكذلك رغَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق جدا في غير ما حديث؛ منها:
عن أبي الدّرداء- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ والصَّدقةِ قالوا بلى قالَ صلاحُ ذاتِ البينِ فإنَّ فسادَ ذاتِ البينِ هيَ الحالِقةُ» [صحيح الترمذي (2509)].
يقول ابن القيّم- رحمه الله: «فالصّلح الجائز بين المسلمين هو الّذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه ورضا الخصمين، فهذا أعدل الصّلح وأحقّه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا للعدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصّائم القائم» [أعلام الموقعين (1/ 109- 110)]
وعن أمِّ كُلْثُوم بنت عُقْبَة بن أَبي مُعَيط رضي الله عنها، قَالَتْ: سمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيراً، أَوْ يقُولُ خَيْراً» . [مُتَّفَقٌ عَلَيهِ]
وفي رواية مسلم زيادة، قَالَتْ: وَلَمْ أسْمَعْهُ يُرْخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إلا في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثَ المَرْأةِ زَوْجَهَا.
فتأمل كيف نفى النبي صلى الله عليه وسلم وصف الكذب المذموم المحرم عن المصلح الذي يسعى بكذبه للصلح بين الناس؛ كأنْ يقول لأحد المتخاصميْن: إن فلانا يمدحك ويثني عليك ويدعو لك وما أشبه ذلك -وهو لم يفعل- وذلك على وجه الإصلاح وإزالة ما بينهما من عداوة؛ فإن ذلك لا بأس به.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسارع في هذا الباب من أبواب الخير، ومن مبادرته في ذلك أنَّ أهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حتَّى تَرَامَوْا بالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلكَ، فَقَالَ: «اذْهَبُوا بنَا نُصْلِحُ بيْنَهُمْ» [صحيح البخاري (2693)]
قال ابن حجر في "فتح الباري": "في هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمعِ كلمة القبيلة وحسمِ مادة القطيعة، وتوجهِ الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك، وفيه تقديمُ مثلِ ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه".
وقال ابن بطال: "فيه: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعِي الفُرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى".
وفي مشهد آخر داخل مسجد النبي ﷺ، ارتفعت أصواتُ كعب بن مالك وعبْدِ اللهِ بنِ أبِي حَدْرَدٍ رضي الله عنهما؛ بسبب دَينٍ بينهما، فخرج النبي ﷺ من حجرته وأشار إلى كعبٍ أن يُسقِط نصف الدَّين تكرُّمًا وتيسيرًا؛ فاستجاب كعب فورًا دون تردُّدٍ، فأمر النبي ﷺ ابنَ أبِي حَدْرَدٍ أن يسدد ما تبقى عليه من الدين. [أصل الحديث في الصحيحين]
فوائد الإصلاح بين الناس
وقد سرد العلماء العديد من الفوائد للإصلاح بين الناس؛ بما يعود نفعه على جماعة المسلمين كافة، فضلا عن آحادهم؛ ومن هذه الفوائد:
(1) الإصلاح بين المؤمنين إذا تنازعوا واجب لا بدّ منه لتستقيم حياة المجتمع ويتّجه نحو العمل المثمر.
(2) بالإصلاح تحلّ المودّة محلّ القطيعة، والمحبّة محلّ الكراهية، ولذا يستباح الكذب في سبيل تحقيقه.
(3) الإصلاح بين النّاس يغرس في نفوسهم فضيلة العفو.
(4) الإصلاح منبعه النّفوس السّامية ولذا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخرج بنفسه ويسعى للإصلاح بين النّاس.
(5) اكتساب الحسنات والثّواب الجزيل من جرّاء الإصلاح بين النّاس.
(6) إصلاح ذات البين أفضل من نافلة الصّيام والصّلاة والصّدقة.
(7) يثمر المغفرة للمتخاصمين عند المصالحة.
(8) عدم الإصلاح يؤدّي إلى استشراء الفساد وقسوة القلوب، وضياع القيم الإنسانيّة الرّفيعة. [نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (2/ 377 - 378)]
نموذج واقعي:
من النماذج الرائعة في السعي للإصلاح بين المسلمين، ما جاء في ترجمة الشيخ عباس يوسف قطان المتوفى في رجب 1370 هـ: «كان الشيخ عباس قطان مشهورا بإصلاح ذات البين وكان يتحرى الإصلاح بين العائلات التي يطول بينها الجفاء أو يستقر بينها العداء أو الأفراد الذين تشتد بينهم البغضاء فتقطع أواصر المودة ويحل الكره محل الحب ولقد كان قضاة مكة يحيلون إليه من القضايا التي تعرض عليهم ما يرون أن من المصلحة تدخله فيها حفظا لصلة الرحم وحسن الجوار
وكان الشيخ عباس قطان رحمه الله يبذل جهده ووقته للإصلاح ما وسعه ذلك مستعينا بمن يتوسم فيهم الخير من الرجال لتحقيق هذه الغاية باذلا في ذلك جاهه وماله وربما اقتضى الأمر مراجعة المسؤولين في دوائر الحكومة لتذليل العقبات التي تعترض سبيله حتى إذا أثمر سعيه جمع المتخاصمين في داره المضيافة على مائدة العشاء أو الغداء مع من اشترك معه في الإصلاح ليذهبوا في اليوم التالي إلى المحكمة فيطلبون من القضاة إلغاء القضايا التي كانوا يقيمونها معلنين تصالحهم وتراضيهم ولا شك أن هذا العمل من أجل الأعمال التي لا يقوم بها إلا أولئك الرجال الكبار الذين اتسعت صدورهم المشاكل الناس فرأبوا الصدع وأقاموا المودة مقام العداوة وسعدوا بما رأوا من ثار سعيهم الطيب بين الناس". [أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة(1/ 86 - 87)]
ختامًا، نقول إن إصلاح ذات البين خلق كريم لا يحتاج إلى علم غزير، بل إلى قلب نقي ونية مخلصة ولسان ليّن، فكن من أهلها تُكتب من المحسنين، وتُظِلُّك رحمة الله يوم تشتد الأهوال وتغيب الظلال.
فيا أيها المبارك، إذا رأيت أخوين افترقا، أو زوجين تخاصما، أو عائلتين تقاطعتا، فلا تكن من المتفرجين، بل كن ممن يسعى بينهما بالحكمة والكلمة الطيبة، وأحيانًا بالسر، وأحيانًا بالصلح المعلن، مستشعرًا وعد الله العظيم: (فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرٗا عَظِيمٗا).
💬 هل سبق وسعيت للإصلاح بين متخاصمين؟ .. احكِ لنا تجربتك 💖
🤲 كن سببًا في زرع الألفة.. وانشر المقال ليصل لكل محبٍّ للإصلاح 🌟