العبادة وقت الفتن والهرج: نجاة في زمن الغرق!

العبادة وقت الفتن والهرج: نجاة في زمن الغرق!
2025/06/24

إن فضل العبادة في أوقات الفتن والهرج، له شأن عظيم في الإسلام، حتى أن النبي ﷺ شبهها بالهجرة إليه.

عن مَعْقِل بن يَسَار رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (العِبَادة في الهَرْج كهجرة إليَّ) [رواه مسلم (2948)].

 

ما المقصود بالهرج؟

والهَرْج: الفتنة في آخر الزمان، والهَرْج: شدة القتل وكثرته. قال النووي في شرح مسلم:

المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس.

 

فضل العبادة عند وجود الهرج:

قال ابن باز رحمه الله:

الحديث يدل على فضل العبادة والاجتهاد في الخير عند وجود الهرج، وعند وجود الفتن والاختلاف وشغل الناس بأموالهم وأهوائهم، فينبغي للمؤمن أن يكون عند اختلاف الناس وعند تهاونهم بأمر الله أو وجود الفتن بين الناس بالقتال أن يكون مشغولًا بطاعة الله، وألا يشغله عن ذلك هذه الفتن، بل ينبغي له أن يهتم بأمر دينه، وأن يتحرز من الدخول في الفتن التي لا يعرف لدخوله فيها وجهًا.

 

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف:

استحب العلماء عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، ولذلك فُضٍّل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه من الذكر، وقد قال النبي ﷺ: "أقربُ ما يكون العبدُ من الرَّبِّ في جوفِ اللَّيلِ، فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر اللهَ في تلك الساعةِ فكُنْ" [صححه الألباني في صحيح الترغيب (1647)].

ولهذا المعنى كان النبي ﷺ يريد أن يُؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علّل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء، قال لهم: "ما يَنْتَظِرُهَا أحَدٌ مِن أهْلِ الأرْضِ غَيْرَكُمْ" [رواه البخاري (566) ومسلم (638)].

 

سر تفضيل العبادة في الهرج:

قال النووي في شرح مسلم:

سبب فضل العبادة فيه – أي في الهرج- أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد.

 

ما سبب تمثيل العبادة في الهرج بالهجرة؟
يقول المُنَاوِي في فيض القدير:

قوله ﷺ: (العبادة في الهَرْج) أي: وقت الفتن واختلاط الأمور، (كهجرة إلي): في كثرة الثواب، أو يقال: المهاجر في الأول كان قليلاً؛ لعدم تمكُّن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهَرْج قليل.

وقال ابن العربي:

وجْه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرِّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقَعَت الفتن تعيَّن على المرء أن يفرَّ بدينِه من الفتنة إلى العبادة، ويَهْجُر أولئك القوم وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة.

 

وعند الحافظ ابن رجب أن الناس في أوقات الفتن يرجعون إلى أهوائهم وآرائهم وأذواقهم بعيدًا عن حكم الله وشرعه، فالذي ينتقل من هذه الحال إلى العبادة والإقبال على الله تبارك وتعالى يكون كالمهاجر، كأن الناس رجعوا إلى شيء مخالف للشرع كحال أهل الجاهلية حيث يتحاكمون إلى غير شرع الله، فيصير هو راجعًا إلى ربه تبارك وتعالى، ومشتغلاً بعبادته فيكون ذلك كالهجرة التي هي الانتقال في أجلى معانيها من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام، وإن كانت الهجرة أوسع من هذا.

 

وفي المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ذكر القرطبي أن ذلك بسبب أن الناس في أوقات الفتن  تشتغل قلوبهم وأسماعهم بالفتن، وتتبعها، وتلقف الأخبار من هنا وهناك، فذلك يشغلهم عن طاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، يشغلهم عن العبادة، فكان إقبالهم على العبادة في وقت الفتن كالهجرة إلى النبي ﷺ.

 

ما دلالة ازدياد الفتن وكثرة الهرج؟
وازدياد الفتن وشيوعها دليلٌ على قُرب الساعة، لقول النبي ﷺ: (إن بين يَدَيِ الساعةِ أيامًا، يُرفَعُ فيها العلمُ، وينزلُ فيها الجهلُ، ويَكثُرُ فيها الهَرْجُ) [رواه البخاري (7064) ومسلم (2672)].

 

وقول النبي ﷺ: (يتقارب الزمان، ويُقْبَضُ العِلمُ، وتظهر الفتنُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، ويَكثُرُ الهَرْجُ)، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: (القتل) [رواه البخاري (6037)، ومسلم (157)].

 

ما العبادة التي يجب أن تحرص عليها في الفتن؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العبودية:

العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك.

 

هنيئًا للعابدين في زمن الهرج:

قال ﷺ: (إنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم، قالوا، يا نبيَّ اللهِ أو منهم؟ قال، بل منْكم).[أخرجه المروزي في السنة واللفظ له (32)، والطبراني (289) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (494)].

فهنيئا للطائعين في وقت الفتنة، والعابدين حين يكثر الهرج وتسود الغفلة.

 

التمسك بالقرآن الكريم طوق النجاة في الفتن:

وفي زمن الاضطراب وكثرة الفتن، يصبح التمسك بالقرآن الكريم طوق النجاة، فهو حبل الله المتين الذي لا ينقطع، ونور الهدى الذي لا يَخبو. فالقرآن هو دستور حياة، ومنهج نجاة، وعهد رباني لا يُخلف.

وما أعظم أن تكون هجرتك إلى الله في زمن الغفلة، بالتمسك بكتابه، وتلاوته، والعمل بأوامره، والاستهداء بنوره.

قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]

فمن تمسك بالقرآن فقد اعتصم بحبل الله، ومن اعتصم به نجا، في زمن كثر فيه التيه وضاعت فيه البوصلة.

فليكن القرآن رفيقك في زمن الحيرة،

ودليلك وسط العتمة،

وسبب نجاتك حين يضطرب الناس.

 

موعظة بليغة:

جاء في المقامة الصنعانية للحريري:

طالما أيْقَظَكَ الدّهرُ فتَناعَسْتَ. وجذبكَ الوعْظُ فتقاعستَ! وتجلّتْ لكَ العِبَرُ فتَعامَيْتَ. وحَصْحَصَ لكَ الحقُّ فتمارَيْتَ. وأذْكَرَكَ الموتُ فتناسيتَ. وأمكنَكَ أنْ تُؤاسِي فما آسيْتَ! تُؤثِرُ فِلساً توعِيهِ. على ذِكْرٍ تَعيهِ. وتَختارُ قَصْراً تُعْليهِ. على بِرٍ تُولِيهِ. وتَرْغَبُ عَنْ هادٍ تَسْتَهْدِيهِ. إلى زادٍ تَستَهْديهِ. وتُغلِّبُ حُبّ ثوبٍ تشْتَهيهِ. على ثوابٍ تشْتَريهِ.

 

فهنيئًا لمن آوى إلى ربه وقت الهَرْج، وجعل من عبادته ملجأ وسبيلاً إلى النجاة. ففي زمن الفتن، النجاة لا تكون إلا بالثبات على الطاعة، والفرار إلى الله لا إلى الناس.

 

أسأل الله تبارك وتعالى أن يجنبنا وإياكم مضلات الفتن

 

شاركنا لنستفيد من تجربتك

إذا كنا نعيش زمن الفتن والهرج، فما نوع العبادة التي تحب أن تفرّ إليها؟

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة