
اصطفى الله تعالى من خلقه ما شاء، فكما اختار من البشر أنبياء ورسلًا، اختار من الأزمنة مواسم للطاعات تُضاعف فيها الحسنات وتُرفع فيها الدرجات. ومن تلك الأزمنة الفاضلة: الأشهر الحرم، ومنها شهر الله المحرّم، الذي عظّمه الله، وميّزه بفضائل جليلة.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعد الأحكام:
تفضيل الأماكن والأزمان ضربان:
أحدهما: دنيوي..
والثاني: تفضيل ديني راجع إلى أن الله يجود على عباده فيها بتفضيل أجر العاملين، كتفضيل صوم رمضان على صوم سائر الشهور، وكذلك يوم عاشوراء.. ففضلها راجع إلى جود الله وإحسانه إلى عباده فيها.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره:
خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها؛ تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان.
من الأشهر الحرم..فلا تظلموا فيهن أنفسكم:
وشهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها :
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36]
وقوله تعالى (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)
أي: من هذه الشهور الاثني عشر أربعة أشهر، يحرم انتهاك المحارم فيها، أشد مما يحرم في غيرها، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. [تفسير القرطبي]
(ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)
أي: هذا الذي أخبرتكم به- من كون الشهور اثني عشر شهرا، منها أربعة حرم- هو الدين المستقيم، والحساب الصحيح. [تفسير ابن جرير]
(فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)
أي: فلا تظلموا- أيها الناس- أنفسكم في هذه الأشهر الأربعة الحرم، بارتكاب السيئات. [تفسير ابن جرير]
وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ:"الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ، الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ" [ أخرجه البخاري (3197)، ومسلم (1679)]
فضيلة الإكثار من الصيام في شهر محرّم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ" [رواه مسلم (1982)]
وليست فضيلة الصيام في شهر المحرم خاصة بالعشر الأول منه، ولا منه عشر أفضل من غيره، إلا أن في العشر الأول صوم تاسوعاء، وعاشوراء، وقد ثبت في السنة فضيلته، والترغيب في صومه.
قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف:
وقد سمى النبي ﷺ المحرم شهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصًا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى، فإنه له من بين الأعمال، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه، المختص به، وهو الصيام.
استحباب صوم تاسوعاء وعاشوراء:
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ.
قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. [رواه مسلم (1134)]
وقد كان النبي ﷺ يتحرى صيام يوم عاشوراء؛ لما له من المكانة، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ." [رواه البخاري (1867)]
قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعًا؛ لأن النبي ﷺ صام العاشر، ونوى صيام التاسع.
وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب.
ولا يكره إفراد عاشوراء بصيام، كذا قال ابن تيمية في الفتاوى وابن حجر الهيثمي في تحفة المحتاج، وإن كان الأكمل صيام التاسع معه.
فضيلة صيام يوم عاشوراء:
قال رسول الله ﷺ: (وَصِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ) [رواه مسلم (1162)]
قال النووي رحمه الله في المجموع:
صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه... كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر، رجونا أن تخفف من الكبائر.
سبب صوم النبي ﷺ ليوم عاشوراء:
سبب صوم النبي ﷺ ليوم عاشوراء وحث الناس على صومه فهو ما رواه البخاري (1865) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا:هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ".
أحكام متعلقة بشهر الله المحرم:
أولًا: حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد
قال الإمام أحمد رحمه الله:
لا ابتدئ بالتهنئة فإن ابتدأني أحد أجبته لأن جواب التحية واجب وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورًا بها ولا هو أيضًا مما نهي عنه.
ثانيًا: حكم القول بكراهية النكاح في شهر الله المحرم
لم يستنكر أحدا من العلماء الزواج في محرم، بل ومن دخل فيه فله أسوة حسنة في أمير المؤمنين علي وزوجته السيدة فاطمة بنت رسول الله ﷺ.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية:
نقل البيهقي عن كتاب "المعرفة" لأبي عبد الله بن منده، أن عليًا تزوج فاطمة بعد سنة من الهجرة، وابتنى بها بعد ذلك لسنة أخرى، فعلى هذا يكون دخوله بها في أوائل السنة الثالثة من الهجرة.
فليغتنم العاقل نفحات هذه الأزمنة المباركة، وليجتهد في تعظيم ما عظّمه الله، خاصة في شهره المحرّم، بالصيام والعمل الصالح وترك الظلم، فإنها نفحات مباركة، ومن عرف قدر الزمان اغتنم فضله، وسأل الله القبول والإخلاص.
شاركنا رأيك:
ما أكثر ما شد انتباهك أو أثّر فيك من أحاديث النبي ﷺ عن شهر المحرّم؟
وهل تضع خطة أو أهدافًا دينية مع بداية شهر محرّم؟