
يقول الله جلَّ ثناؤه: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ قُل لِّأَزۡوَ ٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا وَزِینَتَهَا فَتَعَالَیۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلۡمُحۡسِنَـٰتِ مِنكُنَّ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ [الأحزاب ٢٨-٢٩]
هاتان الآيتان من سورة الأحزاب نزلتا في ظرف خاص وقع في بيت النبيِّ ﷺ، وتضمن موقفًا تربويًا نبويًا عظيمًا، فيه دروسٌ وعبرٌ عديدة نقف على بعضها في هذه الفائدة.
سبب النزول:
ذكر المفسرون وأهل الحديث أن آية التخيير نزلت عندما طلب أزواج النبي ﷺ منه التوسعةَ في النفقة، وسألْنَه شيئا من عرَض الدنيا.
فعن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: دخَلَ أبو بكرٍ يَستأذِنُ على رَسولِ اللهِ ﷺ، فوجَدَ النَّاسَ جُلوسًا ببابِه، لم يُؤذَنْ لأحدٍ منهم، قال: فأُذِنَ لأبي بكرٍ فدخَلَ، ثمَّ أقبلَ عُمَرُ فاستأذن فأُذِنَ له، فوجَد النَّبيَّ ﷺ جالِسًا حَوْلَه نِساؤه، واجِمًا ساكِتًا، فقال: لأقولَنَّ شَيئًا أُضحِكُ النَّبيَّ ﷺ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، لو رأيْتَ بنتَ خارِجةَ سألَتْني النَّفَقةَ، فقُمْتُ إليها فوجَأْتُ عُنُقَها! فضَحِكَ رَسولُ الله ﷺ وقال: هُنَّ حَوْلي كما ترى، يَسأَلْنَني النَّفَقةَ! فقام أبو بكرٍ إلى عائِشةَ يَجَأُ عُنُقَها، فقام عُمَرُ إلى حَفصةَ يجَأُ عُنُقَها، كِلاهما يقولُ: تَسألْنَ رَسولَ الله ﷺ ما ليس عندَه؟! فقُلْنَ: واللهِ لا نَسألُ رَسولَ الله ﷺ شيئًا أبدًا ليس عِندَه. ثمَّ اعتزَلهُنَّ شَهرًا أو تِسعًا وعِشرينَ، ثمَّ نزلَتْ عليه هذه الآيةُ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)، قال: فبدأ بعائِشةَ، فقال: يا عائِشةُ، إنِّي أُريدُ أن أَعرِضَ عليكِ أمرًا أُحِبُّ ألَّا تَعجَلي فيه حتَّى تَستشيري أبوَيْكِ، قالت: وما هو يا رَسولَ اللهِ؟ فتلا عليها الآيةَ، قالت: أفيكَ يا رَسولَ اللهِ أستشيرُ أبوَيَّ؟! بل أختارُ اللهَ ورَسولَه والدَّارَ الآخِرةَ، وأسألُك ألَّا تُخبِرَ امرأةً مِن نسائِك بالَّذي قُلتُ. قال: لا تَسألُني امرأةٌ مِنهُنَّ إلَّا أخبَرْتُها؛ إنَّ اللهَ لم يَبعَثْني مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكِنْ بعَثَني مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا. [رواه مسلم (1478)]
تفسير الآيات:
ومعنى الآيتين: يا أيها النبي قل لأزواجك اللاتي اجتمعن عليك، يطلبن منك زيادة النفقة: إن كنتنَّ تردن الحياة الدنيا وزينتها فأقبِلْنَ أمتعكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا، وأفارقكنَّ دون ضرر أو إيذاء.
وإنْ كنتن تردْنَ رضا الله ورضا رسوله ﷺ، وما أعدَّ الله لكُنَّ في الدار الآخرة، فاصبرْنَ على ما أنتُنَّ عليه، وأطعن الله ورسوله، فإنَّ الله أعد للمحسنات منكنَّ ثوابًا عظيمًا. (وقد اخترن الله ورسوله، وما أعدَّ الله لهن في الدار الآخرة) [التفسير الميسر].
قال عكرمة: وكان تحته ﷺ يومئذٍ تسعُ نسوة: خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة، وأم سلمة -رضي الله تعالى عنهنّ- وكانت تحته ﷺ صفية بنت حُيي النضِيريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحش الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة -رضي الله تعالى عنهنّ، وأرضاهنّ-.[تفسير ابن كثير].
فوائد عديدة في التخيير:
وقد ساق السعديُّ -رحمةُ الله عليه- في تفسيره تسع فوائد في هذا التخيير؛ وهي:
-
الاعتناء برسوله، وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية.
-
سلامته ﷺ، بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منع ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ [الأحزاب: 38].
-
تنزيهه عما لو كان فيهن، من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله، والدار الآخرة، وعن مقارنتها.
-
سلامة زوجاته، رضي اللّه عنهن، عن الإثم، والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن، التسخُّط على الرسول، الموجِب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه.
-
إظهار رفعتهن، وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادَهن ومقصودَهن، دون الدنيا وحطامها.
-
استِعدادُهنَّ بهذا الاختيارِ للأمرِ الخِيارِ؛ للوُصولِ إلى خِيارِ درَجاتِ الجنَّةِ، وأن يَكُنَّ زَوجاتِه في الدُّنيا والآخرةِ.
-
ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مُطيَّبات ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ [النور: 26].
-
أن هذا التخيير داعٍ، ومُوجِبٌ للقناعة، التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه.
-
أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء.
فوائد ولطائف:
وقف علماء التفسير في هاتين الآيتين على العديد من الفوائد العلمية والتربوية واللطائف؛ منها:
-
قولُه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ...) افتِتاحُ هذه الأحكامِ بنِداءِ النَّبيِّ ﷺ بـ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، تَنبيهٌ على أنَّ ما سيُذكَرُ بعدَ النِّداءِ له مَزيدُ اختصاصٍ به، وهو غرَضُ تَحديدِ سِيرةِ أزواجِه معه سِيرةً تُناسِبُ مَرتبةَ النُّبوَّةِ، وتَحديدِ تَزوُّجِه. [تفسير ابن عاشور]
-
قَولُ الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) فيه إعلامٌ لهنَّ أنَّ في اختيارِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اختيارَ اللهِ ورَسولِه والدَّارِ الآخِرةِ، وهذه الثَّلاثةُ هي الدِّينُ. [تفسير الرازي].
-
في قَولِه تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) أنَّ النِّيَّةَ لها أثرٌ عظيمٌ في زيادةِ الثَّوابِ؛ لأنَّه رَتَّبَ هذا الثَّوابَ على هذه الإرادةِ، والنِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ. [تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب].
-
كمالُ خُلُقِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ حيث أمَرَه اللهُ تعالى أنْ يقولَ: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)، بيْنَما كان مقتضَى الحالِ أنْ يُوَبَّخْنَ على ذلك، ويُؤَنَّبْنَ عليه، لكنَّه قيل: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ). [تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب]
-
في قوله تعالى: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا)، قال ابنُ كثير رحمه الله في تفسيره: "وقد اختَلَف العلماء في جواز تزوّج غيره لهنّ لو طلّقهنّ على قولين: أصحّهما نعم لو وقع؛ ليحصل المقصود من السراح، والله أعلم".
-
في قَولِه تعالى: (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) أنَّ مُجَرَّدَ الزُّهدِ في الدُّنيا لا حَمدَ فيه، كما لا حَمدَ على الرَّغبةِ فيها، وإنَّما الحمدُ على إرادةِ اللهِ والدَّارِ الآخرةِ، والذَّمُّ على إرادةِ الدُّنيا، المانعةِ مِن إرادةِ ذلك. [مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/146)]
-
غايةُ أعمالِ الأبرارِ والمقرَّبينَ والمحِبِّينَ: إرادةُ وَجهِه، قال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)، فجعَلَ إرادتَه غيرَ إرادةِ الآخِرةِ، وهذه الإرادةُ لوَجهِه مُوجِبةٌ لِلَذَّةِ النَّظَرِ إليه في الآخِرةِ. [مدارج السالكين لابن القيم (3/24)]
🌟 هل استلهمت درسًا جديدًا من قصة أمهات المؤمنين مع النبي ﷺ ؟ .. نود أن نسمع منك! اترك تعليقًا وساهم في نشر العلم💡