
في حياة الإنسان لحظات تتزلزل فيها الجبال، وتضيق فيها الأرض بما رحبت، ويُبتلى المرء في أحبّ ما يملك: نفسه، وماله، وولده، وصحّته. وبينما يضجّ الكثير بالشكوى، ويئنّ تحت وطأة الابتلاء، يبرز في سماء التاريخ رجلٌ من خيرة خلق الله، أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات فقال:
﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾
[ص: 44]
تأمل هذا الثناء الإلهي العظيم! لم يُقَل عنه: غنيّ، أو قويّ، أو عظيم المُلك… بل وُصف بـ"الصابر" و"الأوّاب"، وذاك هو نبي الله أيوب عليه السلام، الذي نال الشهادة السماوية بأنه عبدٌ نِعْمَ العبد، فكيف بلغ هذه المنزلة؟ وما الدروس التي نستقيها من سيرته؟
قصة الصابر المحتسب: نبي الله أيوب
ولد أيوب عليه السلام في بيتٍ من بيوت الإيمان، وكان غنيًّا صاحب مال وولد، كريم النفس، محبًّا للخير، ذا قلبٍ شاكر لله، لا يبطر بنعمة، ولا يغترّ برزق.
ثم شاءت إرادة الله أن يُبتلى هذا النبي العظيم:
-
ابتُلي في ماله: فذهب ماله كله، حتى أصبح فقيرًا بعدما كان من أغنياء قومه.
-
وابتُلي في أولاده: فمات جميع أبنائه، بعد أن كانوا قرة عينه وسند عمره.
-
وابتُلي في جسده: فابتلاه الله بمرض شديد طال أمده، حتى هجَره الناس، وتنكر له القريب والبعيد، ولم يبقَ بجواره إلا زوجه الصابرة.
ورغم كل ذلك، لم يتكلم بكلمة جزع، ولم يسأل الله الشفاء إلا بأدب الأنبياء فقال:
﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ﴾
[الأنبياء: 83]
فكانت الاستجابة سريعة:
﴿فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرٍّۢ وَءَاتَيْنَـٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةًۭ مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَـٰبِدِينَ﴾
[الأنبياء: 84]
أيوب عليه السلام لم يكن نبيًّا عاديًا، بل كان مدرسة في الصبر، ومَثلًا يُضرب في الثبات، ولذلك قال الله عنه: "نِعْمَ العبد".
عن الصبر
الصبرُ ليس ضعفًا، بل هو قوّة داخليّة تنبع من الثقة بالله. وقد ربطه الله بالأجر غير المحدود في قوله:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
[الزمر: 10]
قال الإمام الطبري في تفسيره: "أي: يُعطون أجرهم بغير عدد ولا حدّ، على صبرهم واحتسابهم."
وقد قال أحد الشعراء:
وإذا عَرَتكَ مصيبةٌ فاصبرْ لها
فالصبرُ خيرٌ عُدةٍ للنوائبِ
رسالة معاصرة
في زمن كثرت فيه الابتلاءات والضغوط النفسية والاجتماعية، نحتاج أن نتذكر نبيًا أصيب في كل ما يخطر ببالك… ولكنه ظل صابرًا، أوّابًا، لا يشتكي الخلق، بل يلجأ إلى الخالق.
رسالتك اليوم:
اصبر، وكن عبدًا لله في السراء والضراء، في الفرح والحزن، في العافية والبلاء.
فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.
وقد قال رسول الله ﷺ:
«عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَهُ كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابته سرَّاءُ شكرَ فكان خيرًا لهُ، وإن أصابته ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا لهُ»
— رواه مسلم (2999)
وختاما
إن أيوب عليه السلام صبر أكثر من 18 سنة كما تقول بعض الروايات، ولم يطلب الفرج إلا بتواضع وأدب مع الله.
شاركنا في التعليقات: ما هي التجربة التي علمتك معنى الصبر الحقيقي؟
لعل الله يُعين بك قلبًا كسيرًا، ويجعلنا جميعًا من القائل فيهم: "نِعْمَ العبد"