مقدمة
القرآن الكريم هو الكتاب الخالد الذي نزل بالحق والهدى، يخاطب القلوب والعقول معًا، ويكشف للإنسان عن حقيقته وضعفه أمام خالقه جلّ وعلا. ومن الآيات التي تهزّ وجدان الإنسان وتدعوه للتفكر قوله تعالى:
﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ [يس: ٧٧].
وقد جاءت هذه الآية الكريمة مرتبطة بسبب نزول محدد، يوضّح لنا كيف واجه القرآن شبهات الكافرين واعتراضاتهم على البعث بعد الموت.
سبب النزول
ذكر الإمام الطبري في جامع البيان، والإمام الواحدي في أسباب النزول، أن الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي، حيث جاء إلى رسول الله ﷺ ومعه عظم بالٍ قد تهشّم، ففتّه بيده وقال: "يا محمد! أترى الله يحيي هذا بعدما صار رميمًا؟" فقال له النبي ﷺ: «نعم، يميتك الله ثم يبعثك ثم يدخلك جهنم» (أخرجه ابن جرير بسند صحيح).
رواه الإمام أحمد (١/٣٨٥)، وابن جرير في تفسيره (٢٣/١٠٥)، والبيهقي في الاعتقاد. قال الألباني: إسناده صحيح.
فنزل قول الله تعالى يرد على هذا الاستهزاء: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ...﴾.
أقوال العلماء في معنى الآية
-
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: "الآية دليل على أن من قدر على الإنشاء من العدم قادر على الإعادة بعد البلى، والخصومة هنا كناية عن شدّة جدال الكفار في إنكار البعث."
-
وذكر ابن كثير في تفسيره: "المعنى أن هذا الجاحد نسي أصل خلقه من ماء مهين، فصار بعد ذلك يجادل ربه ويكابر في البعث."
-
أما الرازي في التفسير الكبير فأكد أن المقصود من الآية التنبيه على ضعف الإنسان وضرورة أن يتواضع لخالقه، لا أن يتطاول بالجدال الباطل.
البلاغيات
الآية الكريمة استعملت أسلوب الاستفهام الإنكاري ﴿أَوَلَمْ يَرَ﴾، ليلفت الانتباه ويُقيم الحجة على المنكر، ثم وصفت الإنسان بأنه "خصيم مبين" أي شديد الخصومة ظاهر العناد، وكأن القرآن يصوّر المشهد ببلاغة تجمع بين ضعف الأصل وقوة الجحود.
شاهد شعري
يقول أبو العتاهيه في وصف ضعف الإنسان
عجبتُ للبشرِ المستكبرينَ على *** ضعفٍ بدا فيهمُ من نُطفةٍ خُلِقوا
فالبيت يجسّد نفس الفكرة التي نبهت إليها الآية: الضعف في المبدأ والغرور في المنتهى.
رسالة معاصرة
هذه الآية الكريمة تحمل رسالة لكل إنسان في عصرنا الحديث؛ فالتقدّم العلمي كشف لنا دقائق خلق الإنسان، ابتداءً من خلية صغيرة لا تُرى بالعين، ومع ذلك يظل بعض الناس يجادلون في خالقهم أو ينكرون البعث. إن تذكّر الإنسان لأصله من نطفة ضعيفة ينبغي أن يغرس في قلبه التواضع، ويبعده عن الغرور المادي أو التكبر العقلي. والجدال مع الحق لا يزيد صاحبه إلا تيهًا وضلالًا.
وفي الختام
إن في نزول هذه الآية العظيمة عبرة بالغة، إذ تُظهر ضعف الإنسان الذي يبدأ من نطفة ثم يتجرأ ليخاصم خالقه. فهل بعد هذا البيان حجة للمنكرين؟
فلنقف مع أنفسنا وقفة صدق، ونسأل: هل نحن من أهل التسليم لرب العالمين، أم من أهل الجدال العقيم؟