
سورةُ العصر واحدةٌ من أقصرِ سور القرآن، لكنها مِن أعظم سُورِه لما تحمله معانٍ جليلةٍ ووصايا عظيمةٍ، حتى قال فيها الإمامُ الشافعيُّ -رحمةُ الله عليه-: «لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ»، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: «لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ»، وفي رواية عنه أيضًا: «لو ما أنزل اللهُ حجةً على خلقه إلا هذه السورة لَكَفَتْهُمْ». [يُنظر: تفسير الشافعي، وتفسير ابن عاشور، وتفسير ابن كثير].
بين يدي السورة:
سُورةُ العَصْرِ مكِّيَّةٌ، لم يرد لها سببُ نزول ولا لبعض آياتها، وآياتها: (3) آيات، وترتيبها في المصحف الشريف رقم (103)، وترتيبها في النزول رقم (13)؛ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ.
أسماءُ السورة
سُمِّيتْ هذه السُّورةُ بسُورةِ (العَصْرِ)، وهو اسمها التوقيفي، وسُميت به لافتِتاحِها بالقَسَمِ الإلهيِّ في قولِه: (وَالْعَصْرِ)، وسُمِّيتْ في بعضِ كتبِ التَّفسيرِ وفي «صحيحِ البخاريِّ» سورةَ «والعصرِ» بإثباتِ الواوِ على حكايةِ أوَّلِ كلمةٍ فيها. [تفسير ابن عاشور].
مقصد السورة:
مقصد السورة الأبرز هو: «بيان حقيقة الربح والخسارة في الحياة، والتنبيه على أهمية الوقت الَّذي يعيشه الإنسان» [المختصر في تفسير القرآن الكريم (1/ 601)]
قال الفيروزآبادي: «مقصود السّورة: بيان خسران الكفَّار والفجّار، وذكر سعادة المؤمنين الأَبرار، وشرح حال المسلم الشكور الصبّار» [بصائر ذوي التمييز(1/ 542)].
موضوعات السورة:
اشْتَمَلَت السورةُ عَلَى:
1- إِثْبَاتِ الْخُسْرَانِ الشَّدِيدِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ بُلِّغَتْ دَعْوَتُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَلَّدَ أَعْمَالَ الْبَاطِلِ الَّتِي حَذَّرَ الْإِسْلَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.
2- إِثْبَاتِ نَجَاةِ وَفَوْزِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالدَّاعِينَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ.
3- فَضِيلَةِ الصَّبْرِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَدَعْوَةِ الْحَقِّ. [تفسير ابن عاشور]
فضلها:
عن أبي مدينة الدارمي، وكانت له صحبة قال:
كان الرَّجُلانِ من أصحابِ النبيِّ إذا التَقَيا لمْ يَفْتَرِقَا حتى يقرأَ أحدُهُما على الآخَرِ : (و العَصْرِ إِنَّ الإنسانَ لَفي خُسْرٍ )، ثُمَّ يُسَلِّمَ أحدُهُما على الآخَرِ. [رواه الطبراني في الأوسط (5124)، وصحَّح الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة (2648)].
تفسير الآيات:
افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالعَصرِ، وهو الدهر أو الزمن أو الوقت، وإنما أقسم الله بالعصر ليبين شرف الزمن والوقت، وليرشد العبادَ إلى أن الزمن والوقت نعمةٌ عظيمةٌ؛ فلا ينبغي تضييعها. فأقسم الله تبارك وتعالى بالعصر على أنَّ كُلَّ الناس في خَسارةٍ وهَلاكٍ، إلَّا قلة قليلة استثناهم الله عز وجل، وهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]؛ فهولاء الذي يتصفون بهذه الصفات الأربع هم فقط من يُنزَّهون من الخسران، وهذه الصفات هي:
- الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
- العمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة.
- التواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يُوصي بعضُهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغِّبه فيه.
- التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمريْنِ الأولين، يكمل الإنسان نفسَه، وبالأمريْنِ الأخيرين يكمل غيرَه، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسانُ قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم [تفسير السعدي]
وقفة تدبرية:
ورَدَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنه قال:
تَعَلَّمْتُ مَعْنى السُّورَةِ مِن بائِعِ الثَّلْجِ كانَ يَصِيحُ ويَقُولُ: "ارْحَمُوا مَن يَذُوبُ رَأْسُ مالِهِ، ارْحَمُوا مَن يَذُوبُ رَأْسُ مالِهِ"؛ فَقُلْتُ: هَذا مَعْنى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ يَمُرُّ بِهِ العَصْرُ فَيَمْضِي عُمُرُهُ ولا يَكْتَسِبُ فَإذًا هو خاسِرٌ. [تفسير الرازي]
وهذا -لعَمْري- مثلٌ بديع يُفصحُ عن معنى السورة أيَّما بيانٍ وإيضاح؛ فبائع الثلج هذا في زمنٍ لم تُعرف فيه الثلاجات ولا المجمّدات، ينادي في السُّوق وقد انفض الناسُ، وبقيت بين يديه ألواح قليلة من الثلج هي كل رأس ماله؛ فأخذ يجوب الطرقات مُضطربًا، يستدرُّ عطف الناس، رافعًا صوته: "ارحموا مَن يذوبُ رأسُ ماله! ارحموا مَن يذوبُ رأسُ ماله!" فقد كان رأس ماله مجردَ ماءٍ متجمد، يذوب شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى له منه شيءٌ؛ فكل قطرة تذوب من ثلجه تستنزف رأسَ ماله، وهكذا حال الإنسان مع عمره ووقته؛ فهو رأسُ ماله الحقيقي، وكل لحظة تمر منه في غير مرضاة الله وطاعته فهي تُنقص من رأس ماله؛ فمِن ثمَّ وصف الله الإنسان المضيِّع وقتَه بالخُسران فقال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
فسورة العصر تعلّمنا أن العمر هو رأس مال الإنسان، وأن الأصل أنه في خسران وهلاك إلا مَن اتصف بالأوصاف الأربعة: الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. وهذه الأوصاف قد اشتملت على جميع ما يحتاجه المرء لإصلاح نفسه.
فهذه السُّورةُ على اختِصارِها هي مِن أجمَعِ سُوَرِ القُرآنِ الكريمِ للخَيرِ بحذافيرِه، والحَمدُ للهِ الَّذي جَعَل كِتابَه كافيًا عن كُلِّ ما سِواه، شافيًا مِن كُلِّ داءٍ، هاديًا إلى كُلِّ خَيرٍ؛ لذا قال الشَّافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: "لو فكَّر النَّاسُ كُلُّهم في هذه السُّورةِ لَكَفَتْهم". [مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/ 56، 57)].
⏳لحظات عمرنا هي أغلى ما نملك .. بعد تدبُّرِك لهذه السورة، كيف ستُغيّر نظرتك لاستثمار وقتك؟
📌النجاة في التواصي بالحق والتواصي بالصبر .. فكن سببًا في نشر الخير وشارك هذا المقال مع من تحب!