
في حادثة الإفك، خاض أهلُ البُهتان في ما خاضوا فيه وقالوا ما قالوا في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ فأنزل الله عز وجل براءتها في قرآنٍ يُتلى إلى يوم الدِّين، وقد عاتبَ اللهُ تبارك وتعالى في هذه الآيات المؤمنين وأنَّب وزَجرَ، ووَعَظَ وحذَّر، وقال في سياق هذه الآيات:
﴿إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَیۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمࣱ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَیِّنࣰا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِیمࣱ﴾ [النور ١٥]
أي: وتَظُنُّونَ أنَّ تلقِّيَكم الإفكَ، وروايةَ بَعضِكم له عن بعضٍ، والخوضَ فيه بلا علمٍ- أمرٌ سهلٌ يسيرٌ، وهو عندَ اللهِ ذنْبٌ عظيمٌ مِن كبائِرِ الذُّنوبِ. [التفسير المحرر]
فأهلُ الإفك أطلقوا هذا الكلامَ الباطلَ ولاكَتْه ألسنتُهم استصغارًا للأمر وظنًّا منهم أنه أمر هين يسير لا تبعةَ له ولا إثم فيه، ولكنَّ الله عز وجل بيَّن لهم أن الميزان هنا ليس ميزان الخلق وإنما هو ميزان الله الحكم العدل وأن الذي خاضوا فيه أمرٌ عظيمٌ من الكبائر.
قال السعدي في تفسيره: "وهذا فيه الزَّجرُ البليغُ عن تعاطي بعضِ الذنوبِ على وجهِ التَّهاونِ بها؛ فإنَّ العبدَ لا يُفيدُه حسبانُه شيئًا، ولا يُخفِّفُ مِن عقوبةِ الذَّنبِ، بل يُضاعفُ الذَّنبَ، ويُسهِّلُ عليه مواقعتَه مرَّةً أُخرَى".
وجاء في تفسير الرازي: "نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ﴿وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا﴾ عَلى أنَّ عِظَمَ المَعْصِيَةِ لا يَخْتَلِفُ بِظَنِّ فاعِلِها وحُسْبانِهِ، بَلْ رُبَّما كانَ ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِعِظَمِها مِن حَيْثُ جَهْلِ كَوْنِها عَظِيمًا"، وأن "الواجِب على المكلَّفِ في كلِّ محرَّمٍ أن يَستعظِمَ الإقدامَ عليه؛ إذ لا يأمَنُ أنَّه من الكبائِرِ.
استصغار الذنوب .. بين حاليْنِ!
وهذا الاستصغار للمعاصي والذنوب آفةٌ من آفات زماننا هذا، ولو تأملتَ حولك لوجدت كثيرين يُقدِمُون بجرأةٍ عجيبةٍ على كثيرٍ من الذنوب والمعاصي، وحين تحدِّثُ أحدَهم ناصحًا تجده يهوِّن من أمر معصيته ويستصغرها، بل هو على الحقيقة لا يراها شيئا، وقد تكون من الكبائر والمسكينُ لا يدري!
وكأنَّ سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه يخاطبُ هؤلاءِ حين يقول: "إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالًا، هي أدَقُّ في أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إنْ كُنَّا لَنَعُدُّها علَى عَهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المُوبِقاتِ" يعني بذلك المهلكات[صحيح البخاري (6492)]
فالصحابة رضوان الله عليهم لشدة خشيتهم لله عز وجل وكمال مراقبتهم له واستحيائهم منه كانوا يعدون الصغائرَ من المُوبقاتِ المهلكاتِ، بخلاف من بعدهم، وقد كان أنسٌ رضي الله عنه يحدث جلساءه من التابعين.
وحالُ الصحابة هذه هي ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن فهو لا يستصغر ذنبا أو معصية، بل يستعظم الذنب في قلبه لِعلمه بجلال الله تعالى، وهو في ذلك إنما ينظر إلى عظمة مَن عصى، فإذا فعل رأى الصغيرة كبيرةً.
يقول عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه:
"إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا" [أخرجه البخاري (6308)، ومسلم (2744) باختلاف يسير]
فهذا الفاجِرُ -وهو الفاسِقُ المُستهترُ- ينظر لذُنوبِه باستخفافٍ، حتى إنَّه يرى كبائِرَ الذُّنوبِ سَهلةً يسيرةً، فكأنَّها ذُبابٌ مرَّ على أنْفِه فأشار بيَدِه، فذَهَب الذُّبابُ ولم يُؤثِّرْ فيه، وليس ذلك لخِفَّةِ ذُنوبِه، ولكِنْ لخِفَّةِ إيمانِه باللهِ سُبحانَه.
ولهذا فقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الذنوب التي يستصغرها المرء ولا يبالي بها فقال: "إيَّاكم ومُحقَّراتِ الذُّنوبِ؛ فإنَّهنَّ يجتمِعْنَ على الرَّجُلِ حتى يُهلِكْنَه" [أخرجه أحمد (3818)، وقال محقق المسند الشيخ شعيب الأرناؤوط: حسن لغيره].
فصَغائِرُ الذُّنوبِ قد تَكثُرُ في فِعلِ الإنسانِ دونَ أن يَشعُرَ، فتُصبحُ مُهلِكةً له؛ لأن الصغائر يجرُّ بعضُها بعضًا وتقود إلى حالةٍ من عدم المبالاة ومِن ثَمَّ ارتكاب الكبائر؛ فتكون مُهلِكةً له.
ولأهمية هذا الأمر، فقد خصَّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم زوجَه عائشةَ رضي الله عنها؛ فقال لها: "يا عائِشةُ، إيَّاكِ ومُحقَّراتِ الأعمالِ؛ فإنَّ لها مِن اللهِ طالِبًا" [أخرجه ابن ماجه (4243)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3440)]
ومعنى "فإنَّ لها مِن اللهِ طالبًا" ملَكًا مُكلَّفًا بحَصْدِها على أصحابِها فيَكتُبُها؛ فهي عند اللهِ تعالى عَظيمةٌ؛ حيثُ خَصَّ لأجْلِها ملَكًا، فإذا اجتمَعَتِ الصَّغائرُ ولم يُكفَّرْ عنها أهلَكَتْ صاحبَها.
نماذج من استصغار الذنوب!
ومن النماذج الواردة في السنة الشريفة لذنوبٍ استصغرها أصحابُها فكانت سببًا في هلاكهم:
-
كلمة هوت بصاحبها في النار:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إنَّ الرَّجُلَ لَيتكلَّمُ بالكلمةِ ما يرى بها بأسًا يهوِي بها في النَّارِ سبعينَ خريفًا» [أخرجه الترمذي (2314)، وابن ماجه (3970)، وصححه شعيب الأرناؤوط في تخريج صحيح ابن حبان (5706)]
وفي رواية الصحيحين: "وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ" [البخاري (6477)، ومسلم (2988)]
فتأمل كيف بلغتْ به هذه الكلمةُ مِمَّا يَكْرَهُه اللهُ ولا يَرْضاهُ، والتي تحدَّث بها الرجلُ دون أن يَلتفِتَ بالُه وقلْبُه لعِظَمِها، أو يَتفكَّرَ في عاقِبتِها، مُستصغرًا لها، مُعتقدًا أنَّها لا تُؤثِّرُ شَيئًا، وذلك كله في نظره هو وفي ميزانه هو، ولكِنَّها عندَ اللهِ عَظيمةٌ في قُبحِها، فيَهْوِي بها -أي: يَنزِل ويَسقُط بسَببِها- في دَرَكاتِ جَهَّنَمَ سبعين سنةً!
-
هرة تدخل امرأةً النار!
يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، ولَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِن خَشَاشِ الأرْضِ» [أخرجه البخاري (3318)]
فهذه المرأةُ حبسَتِ الهرَّةَ حتَّى ماتت جوعًا، فلا هي أطعمَتْها ولا هي تركَتْها تأكُلُ مِن خَشَاشِ الأرضِ، أي: حشَراتِها. فهل كانت هذه المرأة تعتقد أن فعلها هذا سيدخلها النار؟! .. لا، هي لم يجرِ لها هذا الأمرُ على بالٍ ولا فكرت فيه، بل هي كانت تستصغر هذا الفعلَ ولا تراه شيئا، فكانت عاقبتها خُسرًا.
ولنا بعد ذلك أن نتأمل قول الله جل ثناؤه:
﴿وَوُضِعَ ٱلۡكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِینَ مُشۡفِقِینَ مِمَّا فِیهِ وَیَقُولُونَ یَـٰوَیۡلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا ٱلۡكِتَـٰبِ لَا یُغَادِرُ صَغِیرَةࣰ وَلَا كَبِیرَةً إِلَّاۤ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرࣰاۗ وَلَا یَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدࣰا﴾ [الكهف ٤٩]
ففي هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة حين يوضع كِتابُ أعمالِ العباد في أيديهم، فتُبصِرُ المجرمينَ خائِفينَ مِمَّا فيه؛ بسبَبِ ما عَمِلوه من السيِّئاتِ، ويقولونَ حين يطَّلِعون عليه: يا ويلَنا! ما لهذا الكِتابِ لم يَترُكْ صغيرةً مِن أفعالِنا ولا كبيرةً إلَّا عدَّها وأثبَتَها؟! ووجَدوا كُلَّ ما عَمِلوه في الدُّنيا حاضِرًا مُثبَتًا، ولا يَظلِمُ رَبُّك أحدًا مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ فلا يَنقُصُ أحدًا من حَسَناتِه، أو يزيدُ في سَيِّئاتِه. [التفسير المحرر]
فلو وضع كل واحد منا هذا المشهد أمامه وأيقن أن كتاب أعماله لن يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أثبتها عليه، لما تجرأ على تهوين ذنب أو استصغار معصية أو الاستخفاف بإثمٍ، ولوضع مقولةَ الإمام الرباني بلال بن سعدٍ -رحمه الله- نصب عينيه: «لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَلَكِنِ انْظُرْ [إلى عظمةِ] مَنْ عَصَيْتَ»! [الزهد والرقائق لابن المبارك]
📌 لا تترك هذه الفائدة تمرّ عليك مرور الكرام، فكل كلمة فيها قد تغير نظرتك للمعاصي وتحميك من الندم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.