تأدّب الأنبياء مع الله: أدب العبد مع الرب وسُبل الاقتداء

تأدّب الأنبياء مع الله: أدب العبد مع الرب وسُبل الاقتداء
2025/10/07

تمهيد: في حاجة القلب إلى الأدب مع الله

من أعظم ما يُميّز الإنسان المؤمِن أن يكون بينه وبين خالقه مَقامُ أدب، لا مقامُ غفلة أو جفاء. فكما أن الأدب في العلاقات بين البشر يُعزّز المحبة ويُرسّخ التقدير، فإن تأدّب العبد مع الله يُمثّل أعلى درجات الخشوع والوعي أمام ربٍّ حكيم قدير عليم.

والأنبياء عليهم السلام – كانوا أتمَّ من تجلّى فيهم هذا الأدب – فهم في تعاملهم مع الله قدوة لنا في الموقف من الدعاء، والشكر، والرجاء، والخوف، والتذلّل.

في هذه السطور نُسلِّط الضوء على مظاهر تأدّب الأنبياء مع الله تعالى، مع ذكر أمثلة قرآنية وسلوكية من سيرهم، ثم ننتقل إلى أمثلة من السلف الصالح لإظهار استمرارية هذا الأدب، وأخيرًا نُسقط المفهوم على واقعنا المعاصر، ونختم بخاتمة تفاعلية تدعو للتدبّر والعمل.

أولاً: مفهوم الأدب مع الله (تعريف ومقوّمات)

الأدب مع الله يعني أن يتصرف العبد في علاقته بربّه وفق أدبٍ يُعبّر عن عظمة الموقف، لا أن يكون سهوًا أو استهانة أو شعورًا بالاستحقاق.

ومن مقوّمات الأدب مع الله:

  1. الخشوع والخضوع في القلب والبدن، فلا يكون العبد فخورًا متكبرًا في حضرة الله.
     

  2. التذلّل في الدعاء، بأن يُظهر العبد حاجته وضعفه أمام الله.
     

  3. الموازنة بين الرجاء والخشية، فلا يغلب جانب الأمل دون الخوف.
     

  4. إسناد الخير إلى الله والشر إلى النفس، كما في قوله تعالى:

    «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ» (النساء: 79).
     

  5. اتّصاف الأدب في السرّ والعلانية، لأن الله يعلم خفايا القلوب.
     

ثانيًا: أمثلة من تأدّب الأنبياء مع الله في القرآن

في السّيرة القرآنيّة نلمس من خلال حوارات الأنبياء مع الله ومواقفهم تأدُّبًا مهيبًا وإخلاصًا فائقًا:

1. إبراهيم عليه السلام ونسب النعم إلى الله

قال تعالى:

«الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» (الشعراء: 78-80).
لاحظ قوله «وإذا مرضت» بإسناد المرض لنفسه، و*«فهو يشفين»* بإسناد الشفاء إلى الله، وهو قمة الأدب.
 

2. موسى عليه السلام ودعاء التواضع

قال تعالى:

«رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي» (طه: 25-27).
كلها عبارات تُظهر الحاجة المطلقة لتوفيق الله لا للقدرة الذاتية.
 

3. نوح عليه السلام والاستعاذة بالله

قال تعالى:

«رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (القمر: 10).
لم يطلب النصر لنفسه بل فوّض الأمر إلى الله.

4. عيسى عليه السلام وأسلوب الردّ

قال تعالى:

«سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۖ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ» (المائدة: 116).
جمع بين التنزيه والتسليم الكامل لعلم الله.

5. أيوب عليه السلام والدعاء في الضيق

قال تعالى:

«إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (الأنبياء: 83).
عبّر بأدبٍ عن شكواه دون تبرّم أو اعتراض.

ثالثًا: أدب النبي محمد ﷺ مع الله

هو النموذج الأكمل في الأدب مع الله:

أ. قوله تعالى:

«مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى» (النجم: 17).
أي لم يلتفت بصره عمّا أمره الله به في ليلة المعراج، وهذا غاية الأدب.

ب. أدبه في الدعاء

دعاؤه في الطائف:

«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس… إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي»
  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.

ج. تبرؤه من حول النفس

قال ﷺ:

«ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله»
(رواه البخاري)، منسِبًا الفضل كلّه لله لا لنفسه.

 

رابعًا: تأدّب السلف الصالح مع الله

1. أبو بكر الصديق رضي الله عنه

قال في أول خطبة له:

“قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.”
(سيرة ابن هشام، جـ4، صـ273).

2. عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال في دعائه:

“اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة.”
(صحيح البخاري، كتاب الدعوات).

3. علي بن أبي طالب رضي الله عنه

قال:

“اللهم أنت أعلم بذنوبي مني، وأنا أعلم بذنوبي من الناس، فاغفر لي ما تعلمه مني.”
(المستدرك على الصحيحين، جـ1، صـ509).

4. عائشة رضي الله عنها

كانت تقول:

“اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم.”
(رواه البخاري).

 

خامسًا: رسالة معاصِرة – إسقاط الأدب على واقعنا المعاصر

إن أدب الأنبياء ليس حكاية تُروى، بل سلوك يُحتذى. وفي زمان امتلأ بالغرور والادعاء، نحن أحوج ما نكون إلى هذا الأدب.

  • في الدعاء: لا تقل “أعطني لأنني أستحق”، بل “يا رب، تفضل عليّ برحمتك”.
     

  • في الشكر: اجعل لسانك يقول “الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات”.
     

  • في البلاء: قل “اللهم اجعلني من الصابرين”، وابتعد عن الشكوى للخلق.
     

  • في التوفيق: انسب الخير لله كما قال إبراهيم: «فهو يهدين».

سادسًا: الفوائد والعبر المستخلصة

  1. يربي في القلب التواضع والخشية.
     

  2. يرسّخ معنى التوحيد، فالفاعل الحقيقي هو الله.
     

  3. يطهّر النفس من العُجب.
     

  4. يجعل الدعاء أكثر قبولاً وتأثيرًا.
     

  5. يورث السكينة والثقة بالله.

خاتمة: دعوة للتدبّر 

لقد رأينا كيف جسّد الأنبياء والسلف أسمى صور الأدب مع الله، وكيف يمكننا أن نحيا بهذا المعنى اليوم.

فاسأل نفسك الآن:

  • هل أنا ألتزم بأدب الدعاء؟

ابدأ من اليوم بتطبيق “أدب الأنبياء” في كلامك وصلاتك ودعائك، وراقب أثر ذلك على قلبك.

اللهم علّمنا الأدب معك كما أدّب أنبياءك، وازرع في قلوبنا الخشوع والتسليم، إنك أرحم الراحمين.

بحث

الأكثر تداولاً

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة