
من الآيات ذات التأثير العجيب في القلوب، سواء أكنتَ تاليا لها أم مُستمعًا، تلكم الآيات في خواتيم سورة هود [الآيات من 100-108]، والتي جاءت بعد أن قصَّ اللهُ في السورة بطولها عقوباتِ الأُمَمِ المكَذِّبينَ للرسُلِ وما حَلَّ بهم في الدُّنيا من الخِزيِ؛ ومِن ثَمَّ جاءت هذه الآياتُ أشدَّ وقعًا وتأثيرًا.
وفي سياق هذه الآيات -التي ندعوك إلى قراءتها والرجوع إلى تفسيرها من مصحف المدينة- قسَّم اللهُ عز وجل حالَ العباد يوم القيامة إلى فريقينِ: شقيٍّ وسعيدٍ؛ فقال سبحانه:
﴿وَكَذَ ٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَاۤ أَخَذَ ٱلۡقُرَىٰ وَهِیَ ظَـٰلِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥۤ أَلِیمࣱ شَدِیدٌ ١٠٢ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ ذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّجۡمُوعࣱ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَ ٰلِكَ یَوۡمࣱ مَّشۡهُودࣱ ١٠٣ وَمَا نُؤَخِّرُهُۥۤ إِلَّا لِأَجَلࣲ مَّعۡدُودࣲ ١٠٤ یَوۡمَ یَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِیࣱّ وَسَعِیدࣱ ١٠٥﴾ [هود: 102-105]
أي: فمن أهل الجمع شقيٌّ ومنهم سعيدٌ؛ كما قال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]. [تفسير ابن كثير]
فالأشقياء، هم الذين كفروا بالله، وكذَّبوا رسله، وعصَوْا أمره، والسعداء، هم: المؤمنون المتقون. [تفسير السعدي]
كلٌّ ميسّر لما خُلق له!
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَعَلَى مَا نَعْمَلُ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ». [رواه الترمذي (3111)، وصححه الألباني].
وقوله ﷺ: "كلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِق له"، أي: مُهيَّأٌ، وموفَّقٌ لِما خلَقه اللهُ لأجلِه، قابِلٌ له بطَبعِه، فهيَّأ الخيرَ لأصحابِ السَّعادةِ، وهيَّأ لهم أسبابَه، وهيَّأ الشَّرَّ لأصحابِ الشَّقاءِ، وهيَّأ لهم أسبابَه.
وفي الصحيحيْن عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:
كُنَّا فِى جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ (عصا، أو قضيب) فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَالَ: ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاَّ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً ) قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: ( اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ)، ثُمَّ قَرَأَ ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ). [البخاري ( 4666 ) ومسلم ( 2647 )]
مقارنة بين حاليْنِ:
ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء؛ فقال جل ثناؤه:
﴿فَأَمَّا ٱلَّذِینَ شَقُوا۟ فَفِی ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِیهَا زَفِیرࣱ وَشَهِیقٌ ١٠٦ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ ١٠٧ ۞ وَأَمَّا ٱلَّذِینَ سُعِدُوا۟ فَفِی ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۖ عَطَاۤءً غَیۡرَ مَجۡذُوذࣲ ١٠٨﴾ [هود: 106-108]
والمعنى الإجمالي: فأمَّا الذين شَقُوا فالنَّارُ مُستَقَرُّهم، لهم فيها- مِن شِدَّةِ ما هم فيه مِن العذابِ- زفيرٌ وشَهيقٌ، وهما أشنَعُ الأصواتِ وأقبَحُها، ماكثينَ في النَّارِ أبدًا ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، فلا ينقَطِعُ عذابُهم ولا ينتهي، إلَّا ما شاء ربُّك من إخراجِ عُصاةِ الموحِّدينَ بعدَ مُدَّةٍ مِن مُكثِهم في النَّارِ، إنَّ رَبَّك- أيُّها الرَّسولُ- فعَّالٌ لِما يريدُ، وأمَّا الذين رزَقَهم اللهُ السَّعادةَ فيدخُلونَ الجنَّةَ خالدينَ فيها ما دامَتِ السَّمواتُ والأرضُ، إلَّا الفريقَ الذي شاء اللهُ تأخيرَه، وهم عُصاةُ الموَحِّدينَ؛ فإنَّهم يَبقَونَ في النَّارِ مدَّةً مِن الزَّمَن، ثمَّ يخرُجونَ منها إلى الجنَّةِ بمشيئةِ اللهِ ورَحمتِه، ويُعطي ربُّك هؤلاءِ السُّعَداءَ في الجنَّةِ عطاءً غيرَ مَقطوعٍ عنهم. [التفسير المحرر]
فهم مغلوط:
فالآيات الكريمة تُصحِّحُ مفهومًا مغلوطًا لدى كثيرٍ من الناس حول معنى السعادة والشقاوة؛ إذ يعتقدون أن مَن توفرت له أسبابُ الراحة والسَّعَة في الدنيا (كالمال والمسكن والصحة والزوجة والذرية…) هو "السعيد"، وإن كان كافرًا، أو كان مسلمًا بعيدًا عن طريق الهُدى. وفي المقابل، يظنون أن مَن سُلب هذه الأمور من متاع الدنيا؛ فإنه هو "الشقي" وإن كان عبدًا طائعًا محافظًا على دينه!.
وهذا -ولا شكَّ- فهم مغلوط؛ فأهل السعادة هم المؤمنون المتقون وإن كانوا في ضيقٍ من العيش وقلةٍ من متاع الدنيا، وأهل الشقاوة هم الذين كفروا بالله، وكذَّبوا رسله، وعصَوْا أمره، وإن حِيزت لهم الدنيا كلها، وسيقت لهم جميع أسباب الراحة والرفاهية.
وهنا قد يُطرحُ سؤالٌ: لماذا نرى أهل الإيمان والطاعة -غالبًا- في ضيقٍ من العيش، بينما نجد أهل الكفر والمعاصي -غالبًا- في رغَدٍ من العيش وسَعَةٍ؟!..
حين بكى الفاروق!
والجواب لن يكون من جعبتي ولن أتكلف له، فإن مثل هذا السؤال قد طُرح على النبي ﷺ؛ فتولى أكرمُ الخلق الإجابةَ عليه..
ففي سياق حديث اعتزال النبيِّ ﷺ نساءَه، دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبيِّ ﷺ فرآه معتزلاً في غرفة بسيطة متواضعة، مضطجعاً على حصيرٍ خشنٍ قد أثَّر في جنبه الشريف، ولا يوجد في الغرفة إلا قليل من الشعير وجلد -لم يدبغ- معلّق، ونَوْعٌ مِنَ الشَّجرِ يُدبَغُ به الجُلودُ؛ وهذا كلُّه كِنايةٌ عن رَثاثةِ هَيئةِ المكانِ الَّذي كان به النَّبيُّ ﷺ، وشِدَّةِ الحالِ الَّتي كان عليها النَّبيُّ ﷺ.
فلم يتمالك عمر دموعه فبكى متأثرًا بالحال التي رأى عليه رسول الله ﷺ؛ فلما سأله النبي ﷺ عن سبب بكائه: قال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «يا نبيَّ اللهِ، وما لي لا أَبْكي وهذا الحَصيرُ قد أثَّرَ في جنْبِكَ، وَهذِهِ خِزانتُكَ لا أَرى فيها إلَّا ما أَرى، وذاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرى في الثِّمارِ والأنْهارِ، وأنتَ رسولُ اللهِ ﷺ وصفوَتُهُ، وَهذِهِ خِزانتُكَ؟»
فقال النَّبيُّ ﷺ:
«يا ابنَ الخَطَّابِ، ألَا تَرْضى أنْ تَكونَ لنا الآخِرةُ ولَهمُ الدُّنيا؟»
ففسَّرَ له النَّبيُّ ﷺ بذلك مَنطِقَ نَعيمِ الدُّنيا ونَعيمِ الآخِرةِ؛ وهو أنَّ مِن سُنَّةِ اللهِ في عِبادِه أنْ جعَلَ الكفَّارَ يَنْعَمونَ بالدُّنيا على أنْ يَنعَمَ عِبادُه المؤمنونَ بنَعيمِ الآخِرةِ، معَ المُفارَقةِ فيما بيْنَ النَّعيمَيْنِ، وخُلودِ المؤمِنينَ في نَعيمِ الجنَّةِ وما يُقابِلُه من خُلودِ الكفَّارِ في جَحيمِ النَّارِ.
فقال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه: «بَلى» رَضيتُ بذلك يا رسولَ اللهِ! [البخاري (5843)، ومسلم (1479)]
وهكذا.. تُعلِّمنا هذه الآيات الكريمة وتلك المواقف النبوية العظيمة أن ميزان السعادة والشقاء ليس ما نملكه من دنيا فانية، بل ما نحمله من إيمانٍ وصبرٍ ويقين.
فالسعيد هو من أقبل على الله عز وجل وعاش في طاعة الله، وإن ضاق عليه رزقه أو اشتدت عليه محنته. والشقي هو مَن أُعطي مِن الدنيا ما شاء، لكنه أعرض عن خالقه وضيّع آخرته.
فاختر لنفسك مقعدك منذ اليوم.. هل تكون من السعداء الذين يُيسَّرون لعمل أهل الجنة؟ أم من الأشقياء الذين غرتهم الدنيا بزخرفها؟