
الإيثار خُلُقٌ عظيم تسمو به النفوس الطاهرة، وتترقى به الأرواح المؤمنة إلى مراتب الصفاء والعطاء، فهو تقديم الغير على النفس حبًّا لله وابتغاءً لمرضاته. وقد جسّد الأنصار هذا الخُلُق النبيل يوم آثروا إخوانهم المهاجرين على أنفسهم رغم فاقتهم، فاستحقوا ثناء الله في كتابه الكريم، قال الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر:9].
غاية النزاهة من الرذائل:
ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، أنهم ﴿يُؤْثِرُونَ﴾، ويعطون المهاجرين أموالهم إيثارًا لهم بها على أنفسهم، ولو كان بهم ﴿خَصَاصَةٌ﴾ أي حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش. وذكر سبحانه وتعالى ﴿عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ دليل على أنهم في غاية النزاهة من الرذائل؛ لأن النفس إذا طهرت كان القلب أطهر.
آية وقصة:
عن أبي هريرة قال: "أتى رجل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً. فقال: ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار، وفي رواية: فقال أبو طلحة الأنصاري: أنا يا رسول الله، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته أكرمي ضيف رسول الله ﷺ لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليل لضيف رسول الله ﷺ ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله ﷺ فقال: لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيها هذه الآية".[رواه البخاري (3798) ومسلم (2054)]
كيف ينبت الإيثار في النفس؟
والإيثار تقديم الغير على النفس في حظوظ الدنيا، رغبة في حظوظ الآخرة، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وقوة المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصصته به وفضلته. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أفضلُ الصَّدَقَةِ جَهدُ الْمُقِلِّ" [أخرجه أبو داود (1677)، وأحمد (8702) وصححه الألباني في صحيح الجامع (ح:1112)].
وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها.
مقام رفيع:
قال ابن كثير في تفسيره:
وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الْإِنْسَانِ: ٨] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧]. فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله ﷺ: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟. فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ".[أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675) وصححه الألباني].
ومن أروع صور الإيثار هذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه رضي الله عنهم يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
طرق عملية لتسهيل الإيثار على النفس:
فإن قيل: ما الذي يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟
قيل: يسهله أُمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الإنسان وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته.
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده، فإن ذلك عسر جدًا، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله.
ضابط الإيثار المطلوب من العبد:
قال ابن القيم رحمه الله:
فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق. وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضم لك دينًا ولا يسد عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا.
فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل العاقل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحدًا كائنًا من كان. وهذا في غاية الصعوبة على السالك. فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب.
وختامًا: فإن الإيثار ليس خُلقًا يُكتسب بالادعاء، بل ثمرة يقينٍ راسخٍ، ومحبةٍ صادقة، وإيمانٍ عميقٍ بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى. فمن ربّى نفسه على البذل والعطاء، أورثه الله سَعةَ الصدر وبركةَ الرزق، وجعل له في قلوب الناس وِدًّا وأجرًا عظيمًا في الآخرة.
شاركنا رأيك:
أيّهما أعظم أجرًا في نظرك: من يُعطي من فائض ماله أم من يُؤثر وهو محتاج؟
.................
المصادر: تفسير الطبري – فتح البيان للقنوجي – تفسير ابن كثير – تفسير السعدي – مدارج السالكين لابن القيم