
القرآن الكريم أعظم كنز أُنزل للبشر، ومن تدبره انكشفت له أنوار الهداية، وتجلّت أمامه أسرار الحق. فالتدبر ليس تلاوةً بالألسنة فحسب، بل حياةٌ تنبض في القلوب والعقول. قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:47].
أعظم الكنوز:
قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وأصل التدبر التفكر في عاقبة الشيء وما يؤول إليه أمره، وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب وجمع الهم وقت تلاوته، ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصرف، وخلوص النية لله تعالى.
جاء في مدارج السالكين لابن القيم:
التأمل في القرآن هو تحديق نظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر؛ قال الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:47]، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29] ، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف: 3]، وقال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا، فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته،...، وبالجملة فهو أعظم الكنوز.
ومعنى الآية: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه ﷺ، ويتفكَّرون في حُججه التي بيَّنها لهم في تنزيله فيعلموا بها.
والاستفهام للإنكار، والمعنى أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة؟ والحجج الظاهرة؟ والبراهين القاطعة الباهرة؟ التي تكفي من له فهم وعقل، وتزجره عن الكفر بالله والاشراك به والعمل بمعاصيه؟
الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس:
وفي هذه الآية دلالة واضحة على الامر بتدبر القرآن وتفهمه، ونهيا عن الإعراض عنه، وقد بين النبي ﷺ أن المشتغلين بذلك هم خير الناس، كما ثبت عنه ﷺ في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (خَيْرُكم مَن تَعلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه)[البخاري: 5027]، وقال تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران :79].
والحق الذي لا شك فيه أن كل من له قدرة من المسلمين على التعلم والتفهم وإدراك معاني الكتاب والسنة يجب عليه تعلمهما والعمل بما علم منهما، أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعًا، وأما ما علمه منهما علمًا صحيحًا ناشئًا عن تعلم صحيح فله أن يعمل به، ولو آية واحدة أو حديثًا واحدًا، ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من لم يتدبر كتاب الله عام لجميع الناس.
انغلاق القلب عن معرفة الحق:
قال الله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ وإضافة أقفال إلى ضمير قلوب نظم بديع أشار إلى اختصاص الأقفال بتلك القلوب، أي ملازمتها، كما أن وجود الأقفال يعني انغلاق القلب عن معرفة الحق. ومعنى الآية أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأن الله سبحانه قد طبع عليها.
فلا تدخلها زواجر التنبيه ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب، والباب إذا كان مقفلا فكما لا يدخل فيه شيء فلا يخرج ما فيه، فلا كفرهم يخرج ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل.
وفي هذه الآية أعظم حاث على قبول أوامر الله وأشد زاجر عن الإعراض عنه؛ لأن حاصلها أنه لعن من أعرض عنه لكونه لا يتدبر القرآن مع وضوحه ويسره ليعلم فوائد الجهاد الداعية إليه المحببة فيه، فكان قلبه مقفل، والآية من الاحتباك: ذكر التدبر أولا دليلا على ضده ثانيا، والأقفال ثانيا دليلا على ضدها أولا، وسره أنه ذكر نتيجة الخير الكافلة بالسعادة أولا وسبب الشر الجامع للشقاوة ثانيا.
اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك:
قال ابن القيم:
وكأن القلبَ بمنْزلة الباب الْمُرتَج، الذي قد ضُرِبَ عليه قفل؛ فإنه ما لم يُفْتَح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراء، وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن. ومما ينبغي أن يعلم أنه لا يمتنع مع الطبع والختم والقفل حصول الإيمان بأن يفك الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ويهديه بعد ضلاله، ويعلمه بعد جهله، ويرشده بعد غيه، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر لم يمتنع أن يمحوها ويكتب عليه السعادة والإيمان.
وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ وعنده شاب فقال:"اللهم عليها أقفالها ومفاتيحها بيدك لا يفتحها سواك".
فمتى رُفعت الأقفال عن القلوب باشرت أنوار القرآن، وسكنت حلاوته في الأرواح. فالسعيد من جعل التدبر دليله، والعمل بكتاب الله زاده، ليحيا بالقرآن ويُحيا به.
...............................
المصادر:
تفسير الطبري
تفسير ابن كثير
تفسير السعدي
فتح البيان للقنوجي
أضواء البيان للشنقيطي
نظم الدرر للبقاعي
التحرير والتنوير لابن عاشور
تفسير ابن الجوزي